الحديث والسيرة
الخلفاء الراشدون - د.محمد راتب النابلسي
سيدنا عمر بن الخطاب
مــــــــــع ولاتـــــــــــــه، وتقشــــــــــــفـه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام ... مع الدرس الخامس والستين من سِيَر صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين ، ومع الدرس الرابع من سيرة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ليس غريباً أن أقـول لكم : إننا أمام وقائع كالأساطير ، ولكنها وقعت ، الأساطير قصصٌ لا يمكن أن تقع ، إننا أمام أحداثٍ كالأساطير ، ولكنها وقعت وقوعاً ثابتاً ، وإن دلت هذه الأخبارُ على شيء فإنما تدل على أثر الإيمان الصحيح في نفس الإنسان ، فالإنسان إذا آمن أيها الإخوة ففي اللحظة التي يستقر فيها الإيمان في قلبه يعبِّر عن ذاته بذاته بحركةٍ نحو خدمة الخلق ، ونحو اتصاله بالحق ، الإيمان حركة ، الإيمان عمل ، الإيمان مثل ، الإيمان قِيَم ، فهذا سيدنا عمر عملاق الإسلام له أخبار ربما لا تصدق ، ولكنها وقعت ، إنها ثمرة مِن ثمار إيمانه .
وهو على فراش الموت حينما طعن من قبل من طعنه أوصى أصحابه وقال :" يا علي إذا ولِّيت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس ، ويا عثمان إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ، ويا سعد إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل أقاربك على رقاب الناس ".
وكان هذا الخليفة العظيم حينما يخاطب عماله يقول لأحدهم : " لا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم " .
أي إذا استطاع أقلُّ إنسان أن يصل إلى مَن ولاَّه الله شأن المسلمين ، إذا استطاع أن يصل إليـه ، ولا يستطيع مَن حـول هذا الإمام أن يوقع الظلم بأحد قال له : " لا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم " .
وكان من طموحات هذا الخليفة أنه قال مرةً : " لئن عشت إن شاء الله تعالى لأسيرنَّ في الرعية حَوْلاً ...( أي أن جولة تفقدية تستغرق عامًا)... فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني...(أي لا تصلني ) إما أنّ ولاتهم لا يرفعونها إلي ، وإما أنهم لا يصلون إلي ( أي أن هناك سبب إما من الوالي أو من الرعية ، على كلٍ هناك حاجاتٍ لا تصلني تقطعُ دوني ) أسير إلى الشام فأقيم فيها شهرين وبالجزيرة شهرين وبمصر شهرين وبالبحرين شهرين وبالكوفة شهرين وبالبصرة شهرين والله لنعمَ الحوْلُ هذا " .
فقد كان يتمنى أن يقوم بجولةٍ تفقدية يطّلع فيها بنفسه على مشكلات الناس وحاجاتهم وأحوالهم.
مرةً سأل أصحابه قال : " أرأيتم إن استعملّت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل أيبرئ ذلك ذمتي أمام الله ؟ " ، إذا كان سيدنا عمر اختار أصلح إنسان لولاية ما ، وأمره بالعدل يا ترى هل انتهت مسؤوليته ؟ .
فيقول أصحابه : نعم ( انتهى الأمر ، انتهت مهمتك ) استعملت عليهم خيرهم ، أورعهم، أعلمهم ، أفضلهم ، وأمرته بالعدل والإنصاف والإحسان ، فماذا بقي عليك ؟ " يقول : " كلا لم تنتهِ مهمتي حتى أنظر في عمله ، أَعَمِلَ بما أمرته أم لا " .
يجـب أن يتابع ، أن يتابع مدى أو مقدار ما طبّق هذا الإنسان من توجيهات عمر ، فإنْ طبّقها كان بها ، وإلا فلمْ تبرأْ بعد ذمة سيدنا عمر .. ثم يقول : " أيما عاملٌ لي ظلم أحداً ، وبلغتني مظلمته فلم أغيِّرها فأنا ظلمت " ، عدَّ نفسه ظالماً إذا بلغته مظلمة أحد عماله ولم يغيِّر هذه المظلمة .
ويقول لأحد ولاته : " إن نصيحتي لك وأنت عندي جالسٌ كنصيحتي لما هو بأقصى ثغرٍ من ثغور المسلمين وذلك لما طوَّقني الله من أمرهم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" مَن مات غاشاً لرعيته لم يُرح رائحة الجنة "
فقد رأى هذا الخليفة هذه الولاية عبئاً كبيراً يثقل ظهره ، لذلك كثيراً ما كان يقول : " ليت أم عمر لم تلد عمر ، ليتها كانت عقيما " .
وكثيراً ما كان يقول : " أتمنى أن ألقى الله عزَّ وجل لا لي ولا علي" أي رأساً برأس .
كان هذا الخليفة الراشد يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداءً دقيقاً ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال :" إنا والله لا نولي هذا الأمر أحداً يسأله أو يحرص عليه ".
وذات يومٍ أسَرَّ هذا الخليفة في نفسه أن يختار أحد أصحابه ليجعله والياً على أحد الأقاليم ، وهذا الصحابي لو صبر بضع ساعات لاستدعاه عمر ليقلده المنصب الذي رشحه له ، ولكن هذا الصحابي بادر الأمور قبل أن تقع وذهب إلى أمير المؤمنين يسأله أن يوليه إمارةً ، وهو نفسه الذي وقع عليه اختيار عمر ، ويبتسم عمر لحكمة المقادير ويفكِّر قليلاً ثم يقول لصاحبه : " قد كنا أردناك لذلك ، ولكن من يطلب هذا الأمر لا يعان عليه ، ولا يجاب إليه ، ثم صرفه وولَّى" .
هو اختاره بالذات فلما استبق الأمور وطلب منه ولايةً قال له : "قد كنا أردناك لذلك ، ولكن مَن يطلب هذا الأمر لا يعان عليه ولا يجاب إليه " .
الحقيقة أنّ لدينا نقطة دقيقة ؛ وهي أن سيدنا يوسف طلب الولاية ، ألم يقل للملِك :
( سورة يوسف )
فكيف نوفِّق بين توجيه النبي عليه الصلاة والسلام :" إنا والله لا نولي هذا الأمر أحداً يسأله أو يحرص عليه " ، وبين قول الله عزَّ وجل :
( سورة يوسف )
هناك توجيهان يمكن من خلالهما أن نوفِّق بين الآية الكريمة وبين قول النبي عليه الصلاة والسلام ، فحينما طلب سيدنا يوسف من ملِكها أن يتولى أمر خزانة مصر ، وأمر تموينها ، وأمر ميرتها ، كانت في ضائقةٍ وفي مجاعةٍ كبيرة ، وكان المنصب وقتها مغرماً لا مغنماً .
تصور في البلاد أزمة كبيرة جداً ، انهيار اقتصادي ، وإنسان يقول : أنا أصلح الاقتصاد ، هذا ليس طمعاً في مكاسب ، بل هذا المنصب تضحيةٌ ومغامرةٌ بسمعته من أجل إنقاذ البلد من ورطةٍ محققة ، هذا بعض فهْم المسألة ، يوجد توجيه آخر .
الملك حينما أجابه إلى دعوته وأطلق يده فهذا مقبول ، إذا أطلقت يدك في حقل من الحقول ، وأنــت مؤمن واثق من استقامتك ، وعلمك ، وخبرتك ، وورعك وإخلاصك ، وولائك للمصلحة العامة ، فإذا طلبت هذا الأمر من أجل أن تحقق إنجازاً كبيراً فهذا الشيء أيضاً مقبول .
مرةً يقول لأحد ولاته : " لم أستعملك على دماء المسلمين ، ولا على أعراضهم ، ولكني استعملتك لتقيم فيهم الصلاة ، وتقسم بينهم ، وتحكم فيهم بالعدل ، ثم يعدُّ له عداً النواهي التي عليه أن يتجنبها ، لا تركب دابةً مطهَّمةً ، ولا تلبس ثوباً رقيقاً ، ولا تأكل طعاماً رافهاً ، ولا تغلق بابك دون حوائج الناس"، هذه كانت توجيهاته للولاة .
مرةً قال لإخوانه : " دلوني على رجلٍ أَكِلُ إليه أمراً يهمني " ، فقالوا : " فلان " فقال : " ليس لنا فيه حاجة " قالوا : " فمن تريد إذاً؟ ( الآن استمعوا إلى سيدنا عمر وهو يحدد الصفات التي ينبغي في ضوئها أن يختار الوالي ) قال : أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميراً لهم بدا وكأنه أميرهم (من شدة حرصه ورحمته ، من شدة انتمائه لهم ، من شدة غيرته عليهم، هو ليس أميراً عليهم ولكن بدا وكأنه أميرٌ عليهم .) قال : وإذا كان فيهم وهو أميرهم بدا وكأنهم واحدٌ منهم " .
والحقيقة هذا مقياس رائع :" أريد رجلاً إذا كان في قومٍ وليس أميراً عليهم بدا وكأنه أميرهم " ، مِن شدة حرصه ورحمته وغيرته وبذله وتضحيته .
ألم يفعل هذا سيدنا خالد في بعض المعارك حينما أمَّر نفسه في معركة اليرموك ، وهو ليس أميراً ، لكن وجد من المصلحة العامة أن يؤمِّر نفسه حتى ينقذ الموقف.
قال : "وإذا كان فيهم وهو أميرهم - من شدة تواضعه ورغبته أن يكون واحداً من الناس- بدا وكأنهم واحدٌ منهم" ، هذا مقياس هذا الخليفة العظيم في اختيار الولاة .
سيدنا النبي ، اللهم صلِّ عليه كلكم يعلم قصته الشهيرة لما كان مع أصحابه في سفر وأرادوا أن يعالجوا شاةً لمأكلةٍ قال بعضهم : علي ذبحها ، وقال آخر : علي سلخها ، وقال ثالث : علي طبخها، فقال عليه الصلاة والسلام : وعلي جمع الحطب ، فلما قيل له : يا نبي الله نكفيك ذلك ؟ قال : أعرف ذلك ، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه .
فَسُرَّ الصحابة لأنهم سمعوا هذه التوجيهات من نبيهم فطبّقوها ، طبقوها بحذافيرها ، وكم من إنسانٍ يروي هذه القصة ، وبينه وبين مَن معه بَونٌ شاسع ، هو في برجٍ عاجي وهم في الحضيض، فالعبرة لا بتلاوة وقائع السيرة بل العبرة بتمثُّل هذه السيرة والعمل بها .
ومرةً قال النبي لأصحابه حينما قالوا : " أنت سيدنا وابن سيدنا " فنهاهم النبي عليه الصلاة والسلام وقال : " لا يستغوينَّكم الشيطان " .
وكان يقول :" لا تقوموا لي كما يقوم الأعاجم لملوكهم يعظِّم بعضهم بعضا " .
فكان النبي أبعـد الناس عن مظاهر التعظيم ، لأنه عبدٌ لله عزَّ وجل ، والإنسان كلما تواضع ازداد في عين الناس رفعةً ، وكلما استعلى عليهم ازداد في عينهم ضعةً .
مرة في موسم الحج قال عمر على ملأٍ من الأعداد الهائلة من حجاج المسلمين قال : " أيها الناس إني والله لا أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ، ولا ليأخذوا أموالكم ، ولكن أبعثهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسنة نبيكم ، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي ، فو الذي نفسي بيده لأمكننه من القصاص " ، يخاطب جموع الناس في الحج .
سيدنا عمرو بن العاص كان والياً على مصر ، وقد سمع هذه المقالة بأذنه ، فقال : " يا أمير المؤمنين أرأيت إن كان رجلٌ من المسلمين والياً على رعيةٍ ، فأدب بعضهم ، أتقتص منه ؟ هل هذا معقول ؟ فقال عمر : والذي نفسي بيده لأفعلن ، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتص من نفسه ، ألم يقل قبل أن يتوفاه الله :" من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتدْ منه ، من كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذْ منه ، مَن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي " .
إذًا وافقَ النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتص منه ، فَمَن نحن إذا أبينا أن يوقع فينا القصاص؟.
مرة سأل وفداً زاره من حمص عن واليهم عبد الله بن قرط ، فيقولون : " هو خيرٌ يا أمير المؤمنين ، والٍ ممتاز ، لولا أنه بنى لنفسه داراً فارهة ، سيدنا عمر قال : داراً فارهة يتشامخ بها على الناس ، بخٍ بخٍ لابن قرط ، ثم يوفد إليه رسولاً ويقول : ابدأ بالدار فاحرق بابها ، ثم ائتِ به إلي ، ويأتي هذا الرجل الوالي ، ولا يكاد أن يقبل على أمير المؤمنين حتى يأمره أن يخلع حُلَّته ( ثيابه ) ويلبس مكانها لباس الرعاة ويقول له : هذا خيرٌ مما كان يلبس أبوك ، ثم يتناول عصًا ، ويقول له : هذه خيرٌ من العصا التي كان أبوك يهشُّ بها على غنمه ، ثم يشير إلى الإبل ويقول له : اتبعها وارعها يا عبد الله ، ثم بعد حينٍ يستدعيه ، ويقول له معاتباً : هل أرسلتك لتشيد وتبني ، ارجعْ إلى عملك ، ولا تعُدْ لما فعلت أبداً" .