قال الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل في كتابه الأبطال وديانة الأبطال: "أي شي أكبر دلالة على صدق من يدعي لك أنه بنَّاء ماهر من أن يبني بيديه داراً تقاوم العوادي أكثر من ألف ومائتي سنة، وهي تسع نحو مائتي مليون من الناس؟، كذلك لا شيء أكبر دلالة على صدق نبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - من أن يؤسس ديانة تجد فيها نحو مائتي مليون من الأنفس غذاءها الروحاني، وتقاوم عوامل التحلل أكثر من اثني عشر قرناً".
* تعليق: إن اعتراف كارليل اعتراف يستحق التقدير، ولكنه قليل في حق نبي الإسلام - عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -، فإنه ليس بمؤسس دين يقوم على أساس من الوحي السماوي فحسب، ولكنه صاحب الدعوة العالمية الكبرى التي دوت في أرجاء العالم، وقلبته من حال إلى حال، وأتت بأعظم إصلاح عرفه التاريخ البشري، وقاومت عوامل التحلل والانحراف والتبديل أكثر من اثني عشر قرناً (إلى عهد كارليل)، وجاوزته إلى أربعة عشر قرناً، وستقابل كذلك وتقاوم الإلحاد واللادينية لتبقى كما هي، وتجد فيها الأمة المُحَمَّدية غذاءها الروحاني (لأكثر من اثني عشر قرناً فحسب) بل أربعة عشر قرناً كاملة ثم أكثر فأكثر، ذلك لتعيش حياة شريفة، رافعة الرأس في ظلالها المباركة إلى أن تقوم القيامة، فتجزي كل نفس بما عملت وهم لا يظلمون.
وقال كارليل في كتابه المذكور أيضاً: "فمُحَمَّد هو الذي قال إنه رسول من عند الله، وبرهن على صدق قوله بدين نشره في الناس، أخذه مئات الملايين، ومضى عليهم في ذلك قرون طويلة، وهم يحبون دينهم هذا، ويتحمسون له أكبر تحمس، فماذا يراد من الأدلة على نبوته بعد ذلك؟".
وقال المسيو جول لابوم الفرنسي في مقدمة الفهرس الذي وضعه لآيات القرآن المترجم للغة الفرنسية ما يلي: "حوالي ميلاد مُحَمَّد في القرن السادس الميلادي كان جو العالم ملبداً بغيوم الاضطراب والفتن"، ثم سرد جميع أحوال الأمم، وبيَّن ما كان فيها من صنوف الفتنة، فقال: "الخلاصة إن جو العالم الأرضي كان متلبداً بسحب الاضطرابات الوحشية في كل مكان، وكان اعتماد الناس (في سبيل حياتهم) على وسائل الشر أكثر من اعتمادهم على وسائل الخير.
وكان أجمع الرؤساء للثقة والطاعة أشدهم صيحة في إصلاء نيران الحروب والمعارك، ولم يكن يأخذ بعواطف القلوب، ولا يؤثر عليها تأثيراً حاداً (وإن كان وقتياً) إلا شيء واحد ألا وهو الغنيمة، وسلب الأمم والشعوب، والمدن والأعيان، ورجال الحروب وفقراء الفلاحين، وبسطاء المتسولين، ولولا شعاع ضئيل من الحكمة الذي كان يتألق في بعض صوامع الكهنة، وبعض الجراثيم الفلسفية التي كانت بمعزل عن أعاصير تلك المشاغب، وانتقلت من روح إلى روح أخرى بواسطة بعض أصحاب الجرأة من رسل الرقي؛ لولا هذا وذلك لكانت البربرية أسرعت في خطاها معقودة بغطرسة زعماء البهيمية، واستحالت إلى وحشية محضة.
مع هذا كله الذي يجري في العالم كان هناك ركن من أركان الأرض لم تصبه لقمة من هذه الحركة، ولكن لم يكن لحكمة أهله، ورجاحة عقولهم، وإنما كان بسبب موقعهم الجغرافي البعيد عن مضطرب الأمم التي كان يقال إنها متمدنة في ذلك الزمن، ذلك الركن هو شبه جزيرة العرب التي ما كانت تسمع انفجار أعاصير تلك الفتن الهائلة الواقعة في أوروبا إلا عن بعد، وما كان يصل إليها ذلك اللغط إلا في غاية من الضعف والضآلة، كانت جزيرة العرب تجهل وجود الهند والصين، ولهذا فإن علاقتها لم تكن تتعدى مع آسيا حدود الفرس، ولم تعرف فيها الفرس إلا من أخبار الانتصارات والهزائم التي كان من ورائها رد بعض الوديان العربية القريبة من سورية إلى تبعية إمبراطورية القسطنطينية تبعية اسمية، أو رفع تلك التبعية الاسمية عنها".
ثم ختم المسيو جول فذلكته التاريخية الطويلة فقال: "في عهد هذه الأحوال الحالكة المظلمة، وفي وسط هذا الجيل الشديد الوطأة؛ ولد مُحَمَّد بن عبد الله رسول الإسلام - عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - في 29 أغسطس 570م" ثم قال المسيو جول: "هذه كانت حالات العالم على عهد البعثة المُحَمَّدية، وهي حالات - كما يرى المفكرون - كانت تقتضي حدوث انقلاب خطير يتغير له وجه الأرض، وتزلزل منه الأمم زلزالاً شديداً، وتنجم فيه حركة أدبية عنيفة يتنبه بها العقل الإنساني من سباته العميق، وتدفعه لرفع الحجب عنه واحداً بعد آخر، ليتابع طريقه في تخليص الأمم من تحجرها، ورفعها إلى سبيل الرقي والعمران، حتى تبلغ إلى الغايات التي خلقت لبلوغها".
قال المسيو دوزى الفرنسي في كتابه تاريخ عرب أسبانيا: "كان يوجد في بلاد العرب ثلاث ديانات هي الموسوية والعيسوية والوثنية، فكان اليهود من بين أتباع هذه الأديان أشد تمسكاً بدينهم (الموسوي)، وأكثرهم حقداً على مخالفي ملتهم، نعم.. يندر أن تصادف اضطهادات دينية في تاريخ العرب الأقدمين، ولكن ما وجد منهم فمنسوب إلى اليهود وحدهم.
أما النصرانية فلم يكن لها أتباع كثيرون، وكان المتمذهبون بها لا يعرفونها إلا معرفة سطحية.
وأما الوثنيون الذين كانوا هم السواد الأعظم من الأمة فكان لكل قبيلة بل وأسرة منهم آلهة خاصة، والذين كانوا يصدقون بوجود الله - تعالى-، ويعتبرون تلك الآلهة شفعاء؛ فقد كانوا يحترمون كهانهم وأصنامهم بعض الاحترام، ولكنهم مع ذلك كانوا يقتلون الكهان إذا لم يتحقق إخبارهم بالمغيبات، وأولعوا على فضحهم عند أصنامهم إن قربوا لها بعد أن نذروا لها نعجة، وكانوا يسبون أصنامهم إذا لم تُنلهم مطالبهم، ولم تُسعفهم بآمالهم".
* تعليق: لقد صوَّر المسيو دوزى عهد الجاهلية قبل بعثة مُحَمَّد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في الناحية الدينية بالفوضى عموماً، بما فيه حقد اليهود على غيرهم من أهل الأديان، وقلَّة أتباع النصرانية، وضعف معرفتهم، مما يدل على حاجتهم إلى دين جديد، كما وصف دوزى الوثنيين بالجهالة القصوى وهو وصف بالحقيقة، وإلا فما معنى اتخاذ الكهان أئمة، ثم قتلهم عند فشلهم في إخبارهم بالمغيبات؟ وما معنى اتخاذهم الأصنام آلهة دون الله، ثم سبهم إذا لم ينالوا عندهم مطلباً أو إسعافاً في أملهم؟ أفلم يعلموا أن الأصنام أجسام جامدة صنعتها أيدي الوثنيين أنفسهم، لا يقدرون على شيء؟، فالأصنام مخلوقة كما أنهم مخلوقون، وقد خلقهم جميعاً خالق السموات والأرض.
نعم: وصف دوزى عهد الجاهلية بحالة تتطلب بطبيعتها بعثة النَّبيّ العربي مُحَمَّد بن عبد الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، ليقوم بوحي من الله - عَزَّ وجَلَّ - بإصلاح العباد، وتهذيبهم عن الفساد، وإرشادهم نحو التوحيد، وهدايتهم نحو الدين الصحيح، والعقيدة الصحيحة، والعبادة الصحيحة.
وقال المسيو كوسان دوير سوفال: "وكان من العرب من كانوا يعبدون الكواكب - وبخاصة الشمس -، فكنانة كانت تدين للقمر وللدبران، وبنو لخم وجرهم كانوا يسجدون للمشتري، وكان الأطفال من بني عقد يدينون لعطارد، وبنو طيء ألّهوا سهيلاً (أي اتخذوا السهيل إلهاً)، وكان بنو قيس عيلان للشعرى اليمانية، وكان علمهم بما وراء الطبيعة على نسبة آرائهم الدينية"، ثم قال الميسو كوسان: "وكان من العرب من يعتقد بفناء الإنسان إذا خلعته المنون من هذا العالم (أي لا يعتقدون النشور يوم القيامة)، ومنهم من يعتقد بالنشور في حياة بعد هذه الحياة، فكان هؤلاء الأخيرون إذا مات أحد أقربائهم يذبحون على قبره ناقة أو يربطونها، ثم يدَعُونها تموت جوعاً، معتقدين أن الروح لما تنفصل من جسد الناقة تتشكل بصورة طير يسمونه الهامة أو الصدى وهو نوع من البوم لا تبرح ترفرف بجانب قبر الميت نائحة ساجعة، تأتيه بأخبار أولاده".
* تعليق: لقد أضاف المسيو كوسان (في هذه السطور التي نقلناها عنه) وصفاً على وصف الميسو دوزي لعهد الجاهلية قبل بعثة النَّبيّ مُحَمَّد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، يعرف الناس ذلك العهد المظلم بما كان عليه من الجهل والعبادة للمخلوق، والظلم للحيوان (الناقة) بذبحه لا لغرض الأكل أو الإطعام للغير، ولاسيما بربطه وتركه إلى أن يموت جوعاً، بتلك العقيدة الفاسدة التي ذكرها، ومما يذكر هنا: أن من عادة البوم أياً كان نوعه السكنى في الأمكنة الخربة وبخاصة في القبور مما يدلُّ على بطلان هذه العقيدة.
وقال دينسون في كتابه الحركات كأساس للحضارات: "وفي القرنين الخامس والسادس (يعني قبل البعثة) كان العالم على شفا جرف هارٍ من الفوضى، لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة قد انهارت، ولم يكن ثمة ما يُعتدُّ به مما يقوم مقامها.