2. إن أبا بكر - رضي الله عنه – لم يدَّعِ هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته، ولم يكن من أهل هذه الصدقة بل كان مُستغنياً عنها، وقد تضمن تحريم هذا الميراث على ابنته عائشة ولم يعطها منه ولا أياً من زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها أن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- حين تُوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا نورث ما تركنا صدقة).9
3. أن أبا بكر قد أعطى علياً وأولاده من المال أضعاف ما خلَّفه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذا فعل عمر – - رضي الله عنهما - ففي الحديث عن أبي هريرة قال: (جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت: من يرثك؟ قال: أهلي وولدي. قالت: فمالي لا أرث أبي؟ فقال أبوبكر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا نُورث، ولكن أعُولُ من كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعوله، وأُنفق على مَن كان رسول الله ينفق عليه).10 ولم يُعلَم عن أبي بكر أنه منع أحداً حقَّه، ولا ظلم أحداً سواء في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو زمن خلافته فلماذا يظلم سيدة النساء حقَّها ؟!.
4. ثم إن فاطمة - رضي الله عنها- إنما عظم أذاها لما في ذلك من أذى أبيها فإذا دار الأمران: أذى أبيها وأذاها كان الاحتراز عن أذى أبيها أوجب، وهذا حال أبي بكر فإنه احترز عن أن يؤذي أباها أو يريبه بشيء فإن عهد عهداً أو أمر بأمر فخاف إن غيَّر عهده وأمره أن يغضب لمخالفة أمره، وعهده ويتأذى.. بذلك) منهاج السنة (4/253). ويظهر هذا واضحاً جلياً في قول أبي بكر لفاطمة: ((... لست تاركاً شيئاً كان رسول الله يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ).11
5. وليُعلم أن أبابكر كان يحب آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ويُقدِّرهم ويُجلِّهم، ولهذا كان يقول: (.. والله لقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحبُّ إليَّ من أن أصل قرابتي).12 وقال أيضاً: (( ارقبوا محمداً -صلى الله عليه وسلم- في أهل بيته).13
والآن وبعد هذا الاستعراض لأسباب موقف أبي بكر من قضية الميراث أيجوز هذا التحامل من الرافضة الجعفرية ضدّه؟ واتهامه أنه آذى فاطمة وأغضبها وهضم حقها؟! هذه الإجابة نتركها للقارئ المنصف.
وأما ما ذكره الرافضة في عمر - رضي الله عنه - مع فاطمة في قصة فدك فإنه كذب وافتراء عليه - رضي الله عنه - فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وذلك أن عمر لم يكن له غرض في فدَك؛ لم يأخذ لنفسه ولا لأحد من أقاربه وأصدقائه، ولا كان له غرض في حرمان أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بل كان يقدمهم في العطاء على جميع الناس، ويفضلهم في العطاء على جميع الناس، حتى أنه لما وضع الديوان للعطاء، وكتب أسماء الناس، قالوا: نبدأ بك؟ قال: لا, ابدأوا بأقارب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وضعوا عمر حيث وضعه الله.فبدأ ببني هاشم، وضم إليهم بني المطلب؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام).14 فقدم العباس وعلياً والحسن والحسين، وفرض لهم أكثر مما فرض لنظرائهم من سائر الناس و القبائل، وفضَّل أسامة بن زيد على ابنه عبد الله بن عمر في العطاء، فغضب ابنه وقال: تُفضِّل عليَّ أسامة؟ قال: فإنه كان أحبَّ إلى رسول الله منك، وكان أبوه أحبَّ إلى رسول الله من أبيك. قال: وهذا الذي ذكرناه من تقديم بني هاشم وتفضيله لهم أمر مشهور عند جميع العلماء بالسير، لم يختلف فيه اثنان. فمن تكون هذه مراعاته لأقارب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعترته، أيظلم أقربَ الناس إليه، وسيدة نساء أهل الجنة وهي مصابة به في يسير من المال. وهو يُعطى أولادها أضعاف ذلك المال، ويُعطى من هو أبعد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ويُعطى علياً ؟!.
قال: ثم العادة الجارية, بأن طلاب الملك والرياسة لا يتعرضون للنساء, بل يكرمونهن لأنهن لا يصلحن للملك، فكيف يجزل العطاء للرجال , و المرأة يمنعها حقها، لا لغرض أصلاً ديني ولا دنيوي؟!15
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- في "منهاج السنة " رداً على كلام الرافضة الذين قالوا: إن أبا بكر منع فاطمة من ميراث فدك..).
قال: إن هذا الكلام من الكذب والبهتان والكلام الفاسد ما لا يكاد يحصى إلا بكلفه، ولكن سنذكر من ذلك وجوهاً (إن شاء الله تعالى).
أحدها: أن ما ذُكر من ادّعاء فاطمة - رضي الله عنها- فدَك , فإن هذا يناقض كونه ميراثاً لها، فإن كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة، وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث، ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزه، إن كان يُورث كما يورث غيره، أن يوصي لوارث أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه، وإن كان في صحته فلا بد أن تكون هذه هبة مقبوضة، وإلا فإذا وهب الواهب بكلامه ولم يقبض الموهوب شيئاً حتى مات الواهب كان ذلك باطلاً عند جماهير العلماء، فكيف يهب النبي -صلى الله عليه وسلم- فدَك لفاطمة ولا يكون هذا أمراً معروفاً عند أهل بيته والمسلمين، وحتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي - رضي الله عنهما-؟.
الثاني: أن ادعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة، وقد قال الإمام أبو العباس بن شريح في الكتاب الذي صنفه في الرد على عيسى ابن أبان لما تكلم معه في باب اليمين والشاهد: واحتج بما احتج، وأجاب عما عارض به عيسى بن أبان قال: وأما حديث البحتري بن حسَّان عن زيد بن علي أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاها فدك، وأنها جاءت برجل وامرأة فقال: رجل مع رجل، وامرأة مع امرأة، فسبحان الله ما أعجب هذا!! قد سألت فاطمة أبا بكر ميراثها وأخبرها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا نورث، وما حكى في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادَّعتها بغير الميراث، ولا أن أحداً شهد بذلك.
ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فدك: (إن فاطمة سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجعلها لها فأبى، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينفق منها ويعود على ضعفة بني هاشم ويُزِّوج منه أَيمَّهُمْ، وكانت كذلك حياة رسول الله أمر صدقة، وقبلت فاطمة الحق، وإني أشهدكم أني رددتها إلى ما كانت في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-).
ولم يُسمع أن فاطمة - رضي الله عنها- ادعت أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أعطاها إياها في حديث ثابت متصل، ولا أن شاهداً شهد لها.
ولو كان ذلك لحُكي، لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه، فلم يقل أحد من المسلمين: شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاها فاطمة، ولا سمعت فاطمة تدَّعيها حتى جاء البخترى بن حسّان يحكى عن زيد شيئاً ولا ندري ما أصله، ولا من جاء به، وليس من أحاديث أهل العلم: فضل بن مرزوق عن البخترى عن زيد، وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب( المراد ابن مطهر الحلي صاحب "منهاج الكرامة") أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له، وكان الحديث قد حسن بقول زيد: لو كنت أنا لقضيت بما قضى به أبوبكر، وهذا مما لا يثبت على أبي بكر، ولا على فاطمة، ولو لم يخالفه أحد، ولو لم تجر فيه المناظرة ويأتي فيها الرواية، فكيف قد جاءت؟
وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عُروة عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما أفاء الله عليه بالمدينة، وفدك، وما بقي من خُمس خيبر، فقال أبوبكر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:" لا نورث ما تركناه صدقة، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال"، وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأبى أبوبكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً.
وفي البخاري: ( بما عمل فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتشهد عليّ، ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبابكر فضيلتك، وذكر قرابتهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحقهم. فتكلم أبوبكر فقال: والذي نفسي بيده لقرابةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحبُّ إليَّ أن أصلهم من قرابتي.16